recent
موضوعات تهمك

اعلان

السيرة النبوية .. أساليب قريش في مواجهة الدعوة المحمدية

الصفحة الرئيسية
السيرة النبوية ..  أساليب قريش في مواجهة الدعوة المحمدية
السيرة النبوية ..  أساليب قريش في مواجهة الدعوة المحمدية


 أساليب قريش في مواجهة الدعوة المحمدية


سبل شتى لمواجهة الدعوة :

ولما انتهى الحج ، وعادت قريش إلى بيوتهم ، واطمأنوا كأنهم رأوا أن يعالجوا هذه المشكلة التي نشأت لأجل قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله وحده ، ففكروا واستشاروا ، ثم اختاروا سبلاً شتى لمواجهة هذه الدعوة والقضاء عليها ، نذكرها فيما يلي بإيجاز .


1 - الأول مواصلة السخرية والاستهزاء والإكثار منها :

 والقصد من ذلك تخذيل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، وتوهين قواهم المعنوية ، فكانوا يتهمون رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه رجل مسحور ، شاعر مجنون ، كاهن يأتيه الشيطان ، ساحر كذاب ، مفتر متقول ، وغير ذلك من التهم والشتائم ، وكانوا إذا رأوه يجيء ويذهب ينظرون إليه نظر الغضب والنقمة ، كما قال الله تعالى : ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون ) وكانوا إذا رأوه يتهكمون به ، ويقولون : ( أهذا الذي يذكر آلهتكم ) . وإذا رأوا ضعفاء الصحابة قالوا : قد جاءكم ملوك الأرض ( أهؤلاء من الله عليهم من بيننا )


وقد أكثروا من السخرية والاستهزاء ، ومن الطعن والتضحيك حتى أثر ذلك في نفس النبي صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى : ( ولقد نعلم أنه ليضيق صدرك بما يقولون ) ثم ثبته الله تعالى ، وبين له ما يذهب بهذا الضيق ، فقال : ( فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين ، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) وقد بين له ذلك ما فيه التسلية حيث قال : ( إنا كفيناك المستهزئين ، الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر فسوف يعلمون ) وأخبره أن فعلهم هذا سوف ينقلب وبالاً عليهم فقال : ( ولقد استهزيء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون ) .


2 – الثاني : الحيلولة بين الناس وبين الاستماع إلى النبي صلى الله عليه وسلم :

فقد قرروا أن يثيروا الشغب ، ويرفعوا الضوضاء ، ويطردوا الناس كلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يستعد ليقوم بالدعوة إلى الله فيما بينهم ، وأن لا يتركوا له فرصة ينتهزها لبيان ما يدعو إليه ، وقد تواصوا بذلك فيما بينهم ، قال الله تعالى : ( وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) وقد ظلوا قائمين بذلك بكل شدة وصلابة ، حتى إن أول قرآن تمكن النبي صلى الله عليه وسلم من تلاوته في مجامعهم هو سورة النجم – وذلك في رمضان في السنة الخامسة من النبوة - .

وكانوا إذا سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن في صلاته  وأكثر ما كان يتلوه في صلاته بالليل – سبوا القرآن ، ومن أنزله ، ومن جاء به ، حتى انزل الله تعالى : ( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ) .


وذهب النضر بن الحارث إلى الحيرة والشام ، فتعلم منهم قصصاً شعبية ، كانوا يحكونها عن ملوكهم وأمرائهم مثل : رستم و إسفنديار ، فلما رجع أخذ يعقد النوادي والمجالس ، يقص هذه القصص ويصرف بها الناس عن الاستماع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإذا سمع بمجلس جلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم للتذكير بالله ، خلفه في ذلك المجلس ، ويقص عليهم من تلك القصص ، ثم يقول:بماذا محمد أحسن حديثاً مني .


ثم تقدم خطوة أخرى ، فاشترى جارية مغنية ، فكان لا يسمع أحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى تلك المغنية ، ويقول أطعميه واسقيه وغنيه ، هذا خير مما يدعوك إليه محمد ، وفي ذلك أنزل الله تعالى : ( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين ) .


الثالث : إثارة الشبهات وتكثيف الدعايات الكاذبة :

فقد أكثروا من ذلك وتفننوا فيه ، فربما كانوا يقولون عن القرآن : إنه ( أضغاث أحلام ) أي أحلام كاذبة يراها محمد صلى الله عليه وسلم بالليل ، فيتلوها بالنهار وأحياناً كانوا يقولون : ( افتراه من عند نفسه ) وأحياناً كانوا يقولون : ( إنما يعلمه بشر ) وربما قالوا : ( إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون ) أي اشترك هو وزملاؤه في اختلاقه : ( وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ً ) وأحياناً قالوا : إن له جناً أو شيطاناً يتنزل عليه بالقرآن مثل ما ينزل الجن والشياطين على الكهان ، قال – تعالى – رداً عليهم : ( قل هل أنبئكم على من تنزل الشياطين ، تنزل على كل أفاك أثيم ) أي إنها تنزل على الكذاب الفاجر المتلطخ بالذنوب ، وما جربتم علي كذباً ، ولا وجدتم في فسقاً ، فكيف تقولون إن القرآن من تنزيل الشيطان ؟


وأحياناً كانوا يقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قد أصابه نوع من الجنون ، فهو يتخيل المعاني ثم يصوغها في كلمات بديعة رائعة ، كما يصوغ الشعراء ، فهو شاعر وكلامه شعر ، قال الله تعالى رداً عليهم : ( والشعراء يتبعهم الغاوون ، ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون ، وأنهم يقولون ما لا يفعلون ) فهذه ثلاث خصائص يتصف بها الشعراء ، ولا توجد واحدة منها في النبي صلى الله عليه وسلم فالذين اتبعوه هداة ، متقون ، صالحون في دينهم ، وخلقهم وأفعالهم ، وتصرفاتهم ، ومعاملاتهم ولا توجد عليهم مسحة من الغواية في أي شأن من شئونهم ، وهو لا يهيم في الأودية كلها كما يهيم الشعراء ، بل يدعو إلى رب واحد ، ودين واحد وصراط واحد ، وهو لا يقول إلا ما يفعل ، ولا يفعل إلا ما يقول ، فأين هو من الشعر والشعراء ؟ وأين الشعر والشعراء منه .


الرابع : النقاش والجدال :

وكانت ثلاث قضايا استغربها المشركون جداً ، وكانت هي الأساس في الخلاف الذي حصل بينهم وبين المسلمين  في أمر الدين ، وهي : التوحيد والرسالة ، والبعث بعد الموت ، فكانوا يناقشون في هذه القضايا ، ويجادلون حولها .

فأما البعث بعد الموت فلم يكن عندهم في ذلك إلا التعجب والاستغراب ، والاستبعاد العقلي فقط ، فكانوا يقولون  : ( أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون ، أو آباؤنا الأولون ) وكانوا يقولون : ( ذلك رجع بعيد ) وكانوا يقولون : ( هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد ، أفترى على الله كذباً أم به جنة ) وقال قائلهم :


                    أموت ثم بعث ثم حشر                 حديث خرافة يا أم عمرو


وقد رد الله عليهم بأنواع من الردود ، حاصلها أنهم يشاهدون في الدنيا أن الظالم يموت دون أن يلقى جزاء ظلمه ، والمظلوم يموت دون أن يأخذ حقه من ظالمه ، والمحسن الصالح يموت قبل أن يلقى جزاء إحسانه وصلاحه ، والمسيء يموت قبل أن يعاقب على سيئاته ، فإن لم يكن بعد الموت يوم يبعث فيه الناس فيؤخذ من الظالم للمظلوم ، ويجزى المحسن الصالح ، ويعاقب المسيء الفاجر ، لاستوى الفريقان ، ولا يكون بينهما فرق ، بل يصير الظالم والمسيء أسعد من المظلوم والمحسن التقي ، وهذا غير معقول إطلاقاً ، وليس من العدل في شيء ، ولا يتصور من الله سبحانه أن يبني نظام خلقه على مثل هذا الظلم والفساد ، قال تعالى : ( أفنجعل المسلمين كالمجرمين ،ما لكم كيف تحكمون ) وقال : ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون ) وأما الاستبعاد العقلي ، فقال : رداً عليهم في ذلك : ( أأنتم أشد خلقاً أم السماء ..) وقال : ( أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير ) وقال : ( ولقد علمتم النشأة الولى فلولا تذكرون ) وقال : ( كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين ) وذكرهم ما هو معتاد لديهم ، وهو أن الإعادة ( أهون عليه ) وقال : ( أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد ) .


وأما رسالة النبي صلى الله عليه وسلم فكانت لهم حولها شبهات مع معرفتهم واعترافهم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم وأمانته وغاية صلاحه وتقواه ، وذلك أنهم كانوا يعتقدون أن منصب النبوة والرسالة أعظم وأجل من أن يعطى لبشر ، فالبشر لا يكون رسولاً ، والرسول لا يكون بشراً ، حسب عقيدتهم ، فلما أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نبوته ورسالته ، ودعا إلى الإيمان به تحير المشركون ، وتعجبوا ، وقالوا : ( مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ) قال تعالى : ( بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب ) وقالوا : ( ما أنزل الله على بشر من شيء ) .


وقد أبطل الله عقيدتهم هذه ، وقال رداً عليهم : ( قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس ) وقص عليهم قصص الأنبياء والرسل ، وما جرى بينهم وبين قومهم من الحوار ، وأن قومهم قالوا إنكاراً لرسالتهم : ( إن أنتم إلا بشر مثلنا ) و( قالت لهم رسولهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده ) فالأنبياء والرسل كلهم كانوا بشراً ، واما أن يكون الرسول ملكاً فإن ذلك لا يفي بغرض الرسالة ومصلحتها ، إذ البشر لا يستطيع أن يتأسى بالملائكة ، ثم تبقى الشبهة كما هي ، قال تعالى : ( ولو جعلنا ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون ) .


وحيث أن المشركين كانوا يعترفون أن إبراهيم وإسماعيل وموسى عليهم السلام كانوا رسلاً وكانوا بشراً ، فإنهم لم يجدوا مجالاً للإصرار على شبهتهم هذه ، ولكنهم أبدوا شبهة أخرى ، قالوا : ألم يجد الله لحمل رسالته إلا هذا اليتيم المسكين ؟ ما كان الله ليترك العظماء الكبار من أشراف قريش وثقيف ، ويرسل هذا ، ( لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) أي مكة والطائف ، قال تعالى رداً عليهم : ( أهم يقسمون رحمة ربك ) ، يعني الوحي والقرآن والنبوة  والرسالة رحمة من الله ، والله يعلم كيف يقسم رحمته ، وأين يضعها ، فمن يعطيها ، ومن يحرمها ، قال تعالى : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) .


فانتقلوا بعد ذلك إلى شبهة أخرى قالوا: إن من يكون رسولاً لملك من ملوك الدنيا يوفر له الملك أسباب الحشمة والجاه من الخدم ، والحشم ، والضيعة ، والمال ، والأبهة ، والجلال ، وغير ذلك ، وهو يمشي في موكب من الحرس والمرافقين أصحاب العز والشرف ، فما بال محمد يدفع في الأسواق للقمة عيش يدعى أنه رسول الله ؟: ( لولا أنزل عليه ملك فيكون معه نذيراً ، أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً ) .


معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أرسل إلى جميع أنواع البشر : صغارهم وكبارهم ، وضعافهم وأقويائهم ، وأذنابهم وأشرافهم ، وعبيدهم وأحرارهم فلو حصل له ما تقدم من الأبهة ، والجلال ، ومواكبة الخدم ، والحشم ، والكبار ، لم يكن يستفيد به ضعفاء الناس وصغارهم ، وهم جمهور البشر ، وإذن لفاتت مصلحة الرسالة ، ولم تعد لها فائدة تذكر ، ولذلك أجيب المشركون على طلبهم هذا بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول ، يعني يكفي لدحض شبهتكم هذه أنه رسول ، والذي طلبتموه له من الحشمة والجاه والموكب والمال ، ينافي تبليغ الرسالة في عامة الناس بينما هم مقصودون بالرسالة .


أما قضية التوحيد فكانت رأس القضايا وأصل الخلاف ، وكان المشركون يقرون بتوحيد الله سبحانه وتعالى في ذاته وصفاته وأفعاله ، فكانوا يعترفون بأن الله تعالى هو الخالق الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما ، وهو خالق كل شيء ، وهو المالك الذي بيده ملكوت السماوات والأرض وما بينهما وملكوت كل شيء ، وهو الرازق الذي يرزق الناس والدواب والأنعام ، ويرزق كل حي ، وهو المدبر الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ، ويدبر أمر كل صغير وكبير حتى الذرة والنملة ، وهو رب السماوات والأرض وما بينهما ورب العرش العظيم ، ورب كل شيء ، سخر الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب والجن والإنس والملائكة ، كل له خاضعون ، يجير من يشاء على من يشاء ولا يجار عليه أبداً ، يحيي ويميت ، ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه .


وهم بعد هذا الإقرار الصريح لتوحيد الله – سبحانه وتعالى – في ذاته وصفاته وأفعاله كانوا يقولون : إن الله تعالى أعطى بعض عباده المقربين – كالأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين – شيئاً من التصرف في بعض أمور الكون ، فهم يتصرفون فيه بإذنه مثل : هبة الأولاد ، ودفع الكربات ، وقضاء الحوائج، وشفاء المرضى ، وأمثال ذلك . وأن الله إنما أعطاهم ذلك لقربهم من الله ، ولجاههم عند الله ، فهم لأجل أن الله منحهم هذا التصرف وهذا الخيار يقضون بعض حاجات العباد عن طريق الغيب ، فيكشفون عنهم بعض الكربات ، ويدفعون بعض البليات ، ويقربون إلى الله من يرضون به ، ويشفعون له عنده .


والمشركون على أساس زعمهم هذا جعلوا هؤلاء الأنبياء والأولياء والصالحين وسيلة فيما بينهم وبين الله ، واخترعوا أعمالاً يتقربون بها إليهم ، ويبتغون بها رضاهم ، فكانوا يأتون بتلك الأعمال ثم يتضرعون إليهم ، ويدعونهم لقضاء حوائجهم،ويستغيثون بهم في شدائدهم ، ويستعيذون بهم في مخاوفهم .


أما الأعمال التي اخترعوها للتقرب إليهم فهي أنهم خصصوا لهؤلاء الأنبياء أو الأولياء والصالحين أماكن ، وبنوا لهم فيها البيوت ، ووضعوا فيها تماثيلهم التي نحتوها طبق صورهم الحقيقية أو الخيالية وربما وجدوا قبور بعض الأولياء والصالحين حسب زعمهم ، فبنوا عليها البيوت دون أن ينحتوا لهم التماثيل ثم كانوا يقصدون هذه التماثيل وتلك القبور ، فكانوا يمسحونها ويتبركون بها ، ويطوفون حولها ، ويقومون لها بالإجلال والتعظيم ، ويقدمون إليها النذور والقرابين ، ليتقربوا بها إليهم ، ويبتغوا بها من فضلهم ، وكانوا ينذرون لهم مما كان يرزقهم الله من الحرث والزرع والطعام والشراب والدواب والأنعام والذهب والفضة والأمتعة والأموال .


فأما الحرث والزرع والطعام والشراب والذهب والفضة والأمتعة والأموال فكانوا يقدمونها إلى أماكن وقبور هؤلاء الصالحين ، أو إلى تماثيلهم  ، بواسطة سدنة وحجاب كانوا يجاورون تلك القبور والبيوت ، ولم يكن يقدم إليها شيء إلا بواسطتهم في معظم الأحوال .


وأما الدواب والأنعام فكان لهم فيها طرق ، فربما كانوا يسيبونها باسم هؤلاء الأولياء والصالحين ، من أصحاب القبور أو التماثيل ، تقرباً إليهم وإرضاءً لهم ،  فكانوا يقدسون هذه الدواب ، ولا يتعرضون لها بسوء أبداً ترتع ما شاءت ، وتتجول أين شاءت ، وربما كانوا يذبحونها على أنصاب هؤلاء الأولياء – أي على قبورهم وأماكنهم المخصصة لهم – وربما كانوا يذبحونها في أي مكان آخر ، ولكن كانوا يذكرون أسماءهم بدل اسم الله – سبحانه وتعالى - .


وكان من جملة أعمالهم أنهم كانوا يحتفلون بهؤلاء الأولياء والصالحين مرة أو مرتين في السنة ، فكانوا يقصدون قبورهم وأماكنهم من كل جانب ، فيجتمعون عندها في أيام خاصة ، ويقيمون لها أعياداً ، يفعلون فيها كل ما تقدم من التبرك والمسح والطواف وتقديم النذور والقرابين وغير ذلك ، وكان كالموسم يحضره الداني والقاصي ، والشريف والوضيع ، حتى يقدم كل أحد نذره ، وينال بغيته .


 كانوا المشركون يفعلون كل ذلك بهؤلاء الأولياء والصالحين تقرباً إليهم وإرضاءً لهم ، ليجعلوهم وسطاء بينهم وبين الله ، وليتوسلوا بهم إلى الله ، معتقدين أنهم يقربونهم إلى الله زلفى ، ويشفعون لهم عند الله ، ثم كانوا يدعونهم لقضاء حوائجهم ودفع كرباتهم ، معتقدين أنهم يسمعون لما قالوا ، ويستجيبون لما دعوا وطلب منهم ، فيقضون حوائجهم ، ويكشفون كرباتهم ، إما بأنفسهم ، وإما بشفاعتهم لذلك عند الله .


فكان هذا هو شركهم بالله ، وعبادتهم لغير الله ، واتخاذهم آلهة من دون الله ، وجعلهم شركاء لله ، وكان هؤلاء الأولياء والصالحون وأمثالهم هم آلهة المشركين .


فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى توحيد الله ، وخلع كل ما اتخذوه إلهاً من دون الله ، شق ذلك على المشركين ، وأعظموه وأنكروه ، وقالوا : إنها مؤامرة أريد بها غير ما يقال ، وقالوا: ( أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب ، وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ، ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق .


ثم لما تقدمت الدعوة وقرر المشركون الدفاع عن شركهم ، والدخول في النقاش والجدال ومناظرة المسلمين ليكفوا بذلك الدعوة إلى الله ، ويبطلوا أثرها في المسلمين ، أقيمت عليهم الحجة من عدة جوانب ، فقيل لهم : من أين علمتم أن الله تعالى أعطى عباده المقربين التصرف في الكون ، أنهم يقدرون على ما تزعمون من قضاء الحوائج وكشف الكربات ؟ هل أطلعتم على الغيب ؟


أو وجدتم ذلك في كتاب ورثتموه عن الأنبياء أو أهل العلم ؟

قال تعالى : ( أم عندهم الغيب فهم يكتبون ) وقال : ( ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين ) وقال : ( قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون ) .


وكان من الطبيعي أن يعترف المشركون بأنهم لم يطلعوا على الغيب ، ولا وجدوا ذلك في كتاب من كتب الأنبياء ، ولا أخذوه من أهل العلم ، فقالوا : ( بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا ) و( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون ) . وبهذا الجواب تبين عجزهم وجهلهم معاً ، فقيل لهم : إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ، فاسمعوا منه – سبحانه وتعالى – ما يقوله ويخبر به عن حقيقة شركائكم هؤلاء ، يقول تعالى : ( إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم ) أي إنهم لا يقدرون على شيء مما يختص بالله – سبحانه وتعالى – كما أنكم لا تقدرون عليه ، فأنتم وهم سواء في العجز وعدم القدرة ، ولذلك تحداهم الله بقوله : ( فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ) . وقال تعالى : ( والذين تدعون من دون الله ما يملكون من قطمير ) أي بقدر ما يكون من القشرة الرقيقة فوق النواة ( إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير ) وقال تعالى : ( والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ، أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون ) وقال تعالى : ( أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون ، ولا يستطعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون ) وقال : ( واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياةً ولا نشوراً ) .


ثم رتب على عجز هؤلاء الآلهة ، وعدم قدرتهم على ما كانوا يزعمون ، أن دعاءهم والرجاء منهم لغو وباطل لا فائدة فيه إطلاقاً ، وذكر لذلك بعض المثلة الرائعة ، وذلك مثلاً قال تعالى : ( والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ) .


ثم دعى المشركون إلى قليل التفكير ، وحيث إنهم كانوا يعترفون بأن الله تعالى هو خالق كل شيء ، وان آلهتهم لم يخلقوا شيئاً ، بل هم انفسهم مخلوقون لله ، فقيل لهم : كيف سويتم بين الله الخالق القادر وبين هؤلاء المخلوقين العجزة ؟ كيف سويتم بينهما في العبادة والدعاء ؟ فإنكم تعبدون الله وتعبدون هؤلاء ، وتدعون الله وتدعون هؤلاء : ( أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون ) .


فلما وجه إليهم هذا السؤال بهتوا ، وذهبت عنهم حجتهم ، فسكتوا وندموا ثم تشبثوا بأمر باطل ، قالوا : إن آباءنا كانوا من أعقل البشر ، معروفين بذلك فيما بين الناس ، قد اعترف بفضل عقولهم الداني والقاصي ، وهم كلهم كانوا على هذا الدين ، فكيف يمكن أن يكون  هذا الدين ضلالاً وباطلاً ؟ ولا سيما وآباء النبي صلى الله عليه وسلم وآباء المسلمين أيضاً كانوا على هذا الدين .


فرد عليهم بأنهم ما كانوا مهتدين ، ولم يعرفوا سبيل الحق ، ولا سلكوه ، ويستلزم هذا أنهم كانوا ضالين ، لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون ، وقد قيل لهم ذلك أحياناً بالإشارة والكناية ، وأحياناً بالصراحة الكاملة ، مثل قوله تعالى : ( إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون ) . هذه من جهة ومن جهة أخرى أخذ المشركون يخوفون النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من آلهتهم ، يقولون : إنكم أسأتم الأدب إلى آلهتنا ببيان عجزهم ، فهم سوف يغضبون عليكم ، فتهلككم أو تخبطكم لأجل ذلك ، وهذا كما كان الأولون يقولون لرسلهم : ( إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء ) .


ورد على ذلك بتذكير المشركين وإلزامهم بما كانوا يشاهدونه ليلاً ونهاراً ، وهي أن هذه الآلهة لا تستطيع أن تتحرك من أماكنها ، وتتقدم أو تتأخر شيئاً ، أو تدفع عن نفسها شراً ، فكيف تستطيع أن تضر المسلمين وتهلكمهم ؟ ( ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون ) .


وضرب لهم بمثل هذه المناسبة بعض المثال الصريحة ، مثل قوله تعالى: ( يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ) ومثل قوله تعالى : ( مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ) وقد بين بعض المسلمين عجزهم هذا بقوله :


أرب يبول الثعلبان برأسه                   لقد ذل من بالت عليه الثعالب


فلما وصلت النوبة إلى مثل هذه الصراحة هاج المشركون وماجوا ، وسبوا المسلمين حتى سبوا ربهم الله سبحانه وتعالى فأما المسلمون فقد نهاهم الله سبحانه وتعالى عن معاودة ما يسبب ذلك وقال : ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم ) .


وأما المشركون فقد قرروا إحباط الدعوة ، والصد عن سبيل الله بالضغط والقوة والعنف ، فقام كل كبير ورئيس بتعذيب من آمن من قبيلته ، وذهب جمع منهم إلى أبي طالب ليكف هو رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعوة إلى الله .



ثابت

google-playkhamsatmostaqltradent